فصل: بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ:

قَالَ: (وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ) لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ، فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَصَارَ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُ الرَّهْنِ.
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ) لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إضْرَارًا بِهِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ وِلَايَتِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ رُجُوعُ الْحُقُوقِ إلَيْهِ فَيَنْقُدُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ فَيَضْمَنُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَيَسْتَوِي الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ فَلَا نُعِيدُهُ.
قَالَ: (وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبَقًا، وَلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ مُطْبَقًا لِأَنَّ قَلِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ وَحَدُّ الْمُطْبَقِ شَهْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِمَا يَسْقُطُ بِهِ الصَّوْمُ وَعَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَصَارَ كَالْمَيِّتِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ حَوْلٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ فَقُدِّرَ بِهِ احْتِيَاطًا.
قَالُوا: الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللَّحَاقِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ فَكَذَا وَكَالَتُهُ فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَتَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ وَقَدْ مَرَّ فِي السِّيَرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِهَا عَلَى مَا عُرِفَ.
(قَالَ: وَإِذَا وُكِّلَ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ عَجَزَ أَوْ الْمَأْذُونُ لَهُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ الشَّرِيكَانِ فَافْتَرَقَا فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تُبْطِلُ الْوَكَالَةَ عَلَى الْوَكِيلِ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِالْحَجْرِ وَالْعَجْزِ وَالِافْتِرَاقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ هَذَا عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ.
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبَقًا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ بَعْدَ جُنُونِهِ وَمَوْتِهِ (وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ مُسْلِمًا).
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَكَالَةَ إطْلَاقٌ، لِأَنَّهُ رَفَعَ الْمَانِعَ أَمَّا الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ، وَإِنَّمَا عَجَزَ بِعَارِضِ اللَّحَاقِ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ وَالْإِطْلَاقُ بَاقٍ عَادَ وَكِيلًا، وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَةَ التَّنْفِيذِ بِالْمِلْكِ وَبِاللَّحَاقِ لَحِقَ بِالْأَمْوَاتِ، وَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ، فَلَا تَعُودُ كَمِلْكِهِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ، وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا، وَقَدْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي الظَّاهِرِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهَا تَعُودُ كَمَا قَالَ فِي الْوَكِيلِ، وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ، وَفِي حَقِّ الْوَكِيلِ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِهِ وَلَمْ يَزُلْ بِاللَّحَاقِ.
قَالَ: (وَمَنْ وَكَّلَ آخَرَ بِشَيْءٍ ثُمَّ تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْتَظِمُ وُجُوهًا: مِثْلُ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ أَوْ بِكِتَابَتِهِ فَأَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَوْ بِالْخُلْعِ فَخَالَعَهَا بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ وَأَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ انْقَضَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ وَأَبَانَهَا لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْمُوَكِّلَ لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ فَلَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَنْعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَالْعَزْلِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ إطْلَاقٌ وَالْعَجْزُ قَدْ زَالَ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ فَوَهَبَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَهَبَ ثَانِيًا لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الرُّجُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْحَاجَةِ فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الدَّعْوَى:

قَالَ: (الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ) وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى.
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِيهَا، فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ.
وَقِيلَ: الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ، وَقِيلَ: الْمُدَّعِي مَنْ يَتَمَسَّكُ بِغَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ وَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ: رَدَدْتُ الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ يُنْكِرُ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ مَعْنًى.
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ) لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ.
(فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا لِيُشِيرَ إلَيْهَا بِالدَّعْوَى) وَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ وَذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ فِي الْمَنْقُولِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وُجُوبُ الْحُضُورِ، وَعَلَى هَذَا الْقُضَاةُ مِنْ آخِرِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَوُجُوبُ الْجَوَابِ إذَا حَضَرَ لِيُفِيدَ حُضُورَهُ وَلُزُومُ إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِمَا قُلْنَا وَالْيَمِينُ إذَا أَنْكَرَهُ وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً قَيَّمْتهَا لِيَصِيرَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا) لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.
قَالَ: (وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ فَيُصَارُ إلَى التَّحْدِيدِ، فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ، وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ، لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا عُرِفَ، هُوَ الصَّحِيحُ وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يُكْتَفَى بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ، لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِهِ الْمُدَّعَى وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا، وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَد الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي، هُوَ الصَّحِيحُ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ إذْ الْعَقَارُ عَسَاهُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ وَقَوْلُهُ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ وَبِالْمُطَالَبَةِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الْمَنْقُولِ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ ذَكَرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا) لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ (وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَك بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ» سَأَلَ وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِحْلَافُ.
قَالَ: (فَإِنْ أَحْضَرَهَا قُضِيَ بِهَا) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهَا (وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا) لِمَا رَوَيْنَا وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ.
الشرح:
كِتَابُ الدَّعْوَى:
حَدِيثٌ وَاحِدٌ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَك بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي الْقَضَاءِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ فَاجِرٌ، لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَدْبَرَ: أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْته إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ قُلْت: لَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ.
قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا يَحْلِفُ وَيَذْهَبُ بِمَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ}»
إلَى آخِرِ الْآيَةِ، انْتَهَى.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي الرَّهْنِ، وَمُسْلِمٍ فِي الْأَيْمَانِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».
قَالَ: فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ صَدَقَ، فِي نَزَلَتْ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ، فَخَاصَمْتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: شَاهِدَاك، أَوْ يَمِينُهُ.
قُلْت: إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، انْتَهَى.

.بَابُ الْيَمِينِ:

(وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَاهُ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ، وَمُحَمَّدُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ: (وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قِسْمٌ، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكَرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشرح:
بَابُ الْيَمِينِ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، انْتَهَى.
وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظٍ «لَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»، أَخْرَجَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْنَاهُ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ: «شَاهِدَاك، أَوْ يَمِينُهُ»، فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ هُوَ، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ»، انْتَهَى.
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ عَنْهُ هَكَذَا، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، وَغَيْرُهُ عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ: هَذَانِ الْإِسْنَادَانِ يُعْرَفَانِ بِمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَفِي الْمَتْنِ زِيَادَةُ قَوْلِهِ: إلَّا فِي الْقَسَامَةِ، انْتَهَى.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مَنْصُورٍ الْجُمَحِيِّ عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ بَرَّةَ بِنْتِ أَبِي تُجْزَأَةَ، قَالَتْ: «أَنَا أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ، فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ، وَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ الْبَابِ، ثُمَّ أَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ جُلُوسٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، فَذَكَرَ خُطْبَةً، وَفِيهَا: وَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، مُخْتَصَرٌ، وَالْمُصَنِّفُ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، قَالَ: لِأَنَّهُ قَسْمٌ، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فَقَالَ بِهِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ، قَالَ عُمَرُ: وَفِي الْحُقُوقِ، انْتَهَى.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ ثِقَةٌ، وَسَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثِقَةٌ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنَيْهِمَا وَوَثَّقَ الْبَيْهَقِيُّ سَيْفَ بْنَ سُلَيْمَانَ نَقْلًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَأَسْنَدَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَرُدُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلَهُ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُهُ، مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ يَشْهَدُهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ لَا يُخَالِفُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ شَيْئًا، لِأَنَّا نَحْكُمُ بِشَاهِدَيْنِ، وَبِشَاهِدٍ، وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا يَمِينَ، فَإِذَا كَانَ شَاهِدٌ حَكَمْنَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِخِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا أَرَادَ اللَّهُ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَأْخُذَ مَا أَتَانَا، وَنَنْتَهِيَ عَمَّا نَهَانَا، انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، لَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِي إسْنَادِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي صِحَّتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ «الْقَضَاءُ بِالْيَمِينِ، وَالشَّاهِدِ» عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَعُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، وَسُرَّقٍ، بِأَسَانِيدَ، انْتَهَى.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِالِانْقِطَاعِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ: وَسَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: إنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، انْتَهَى.
قُلْت: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَخَالَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فَلَمْ يَذْكُرْ طَاوُسًا، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ، وَرِوَايَةُ الثِّقَاتِ لَا تُعَلَّلُ بِرِوَايَةِ الضُّعَفَاءِ، انْتَهَى.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا أَعْلَمُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِشَيْءٍ يَعْنِي فَيَصِيرُ فِيهِ انْقِطَاعَانِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمٌ قَدْ أَخْرَجَهُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ يُرْمَى بِالِانْقِطَاعِ فِي مَوْضِعَيْنِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ لَا نَعْلَمُهُ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِشَيْءٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَضَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ»، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ الْقُدَامِيُّ، يَرْوِي عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا أَعْلَمُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِشَيْءٍ، وَهَذَا مَدْخُولٌ فَإِنَّ قَيْسًا ثِقَةٌ أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ أَثْبَتُ، وَإِذَا كَانَ الرَّاوِي ثِقَةً وَرَوَى حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ يَحْتَمِلُهُ سِنُّهُ، وَلَقِيَهُ، وَكَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالتَّدْلِيسِ، وَجَبَ قَبُولُهُ، وَقَدْ رَوَى قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا، وَأَقْدَمُ مَوْتًا مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ كَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مَنْ كَانَ فِي قَرْنِ قَيْسٍ، وَأَقْدَمَ لُقْيَا مِنْهُ، كَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَكَيْفَ يُنْكِرُ رِوَايَةَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؟ غَيْرَ أَنَّهُ رَوَى مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَطْعَنًا سِوَى ذَلِكَ وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا وَقَصَتْهُ نَاقَةٌ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَدْ عَلِمْنَا قَيْسًا رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ غَيْرَ حَدِيثِ: الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، ثُمَّ قَدْ تَابَعَ قَيْسًا عَلَى رِوَايَتِهِ هَذِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ حَدِيثِ قَيْسٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»، انْتَهَى.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَذَا، وَقَضَى بِكَذَا، لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْمَحْكِيِّ لَا فِي الْحِكَايَةِ، وَالْمَحْكِيُّ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَأَيْضًا فَالْقَضَاءُ لَهُ مَعَانٍ، أَقْرَبُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَهَذَا مِمَّا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْخُصُوصُ، إذْ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْحُكْمُ بِكُلِّ شَاهِدٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، بَلْ إنَّمَا يُقْضَى بِشَاهِدٍ خَاصٍّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّاوِي قَدْ اعْتَمَدَ عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ حَقِيقَةُ الْجِنْسِ، لَا اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى بِجِنْسِ الشَّاهِدِ، وَجِنْسِ الْيَمِينِ.
وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِمَا وَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَسُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ» وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ»، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الْحَقِّ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ أَخَذَ حَقَّهُ، وَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ».
بَقِيَّةُ أَحَادِيثِ الْخُصُومِ:
فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْقَضَاءِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بِإِسْنَادٍ نَحْوِهِ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ سُلَيْمَانُ: فَلَقِيت سُهَيْلًا فَسَأَلْته عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ، فَقُلْت: إنَّ رَبِيعَةَ أَخْبَرَنِي بِهِ عَنْك، فَقَالَ: إنْ كَانَ رَبِيعَةُ أَخْبَرَك بِهِ عَنِّي، فَحَدِّثْ بِهِ عَنْ رَبِيعَةَ عَنِّي، قَالَ: وَكَانَ سُهَيْلُ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ، وَنَسِيَ بَعْضَ حَدِيثِهِ، فَكَانَ سُهَيْلٌ بَعْدُ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ، انْتَهَى. وَحَدِيثُ جَابِرٍ: فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»، انْتَهَى.
ثُمَّ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ».
قَالَ: وَقَضَى بِهِ عَلِيٌّ فِيكُمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا أَصَحُّ، وَهَكَذَا رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى.
وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: وَجَدْنَا فِي كِتَابِ سَعْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَحَدِيثُ سُرَّقٍ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَنْ سُرَّقٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ، وَيَمِينَ الطَّالِبِ»، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ»، وَقَضَى بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعِرَاقِ، انْتَهَى.
وَهَذَا إسْنَادٌ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ لَمْ يُدْرِكْ جَدَّ أَبِيهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ أَطَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ، قَالَ: وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رُبَّمَا أَرْسَلَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَرُبَّمَا وَصَلَهُ عَنْ جَابِرٍ، لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الثِّقَاتِ حَفِظُوهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ، لِأَنَّهُمْ زَادُوا، وَهُمْ ثِقَاتٌ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ كَانُوا يَقْضُونَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي».
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ) (أَوْلَى).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقْضِي بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِاعْتِضَادِهَا بِالْيَدِ، فَيَتَقَوَّى الظُّهُورُ وَصَارَ كَالنِّتَاجِ وَالنِّكَاحِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا أَوْ إظْهَارًا لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَهُ الْيَدُ لَا يُثْبِتُهُ بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إذْ الْيَدُ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا.
قَالَ: (وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَأَلْزَمَهُ مَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَقْضِي بِهِ بَلْ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ وَاشْتِبَاهَ الْحَالِ فَلَا يُنْتَصَبُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي دَلِيلُ الظُّهُورِ فَيُصَارُ إلَيْهِ.
وَلَنَا أَنَّ: النُّكُولَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَازِلًا أَوْ مُقِرًّا إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ، وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
قَالَ: (وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثًا فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ) وَهَذَا الْإِنْذَارُ لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ.
قَالَ: (فَإِذَا كَرَّرَ الْعَرْضَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ) وَهَذَا التَّكْرَارُ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْعُذْرِ، وَأَمَّا الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَازَ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ: لَا أَحْلِفُ وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ مِنْ طَرَشٍ أَوْ خَرَسٍ هُوَ الصَّحِيحُ.
الشرح:
قَوْلُهُ: لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ قُلْت: يُوجَدُ هَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الْأَقْضِيَةِ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوَجَدَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَيْبًا، فَخَاصَمَهُ إلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: بِعْتَهُ بِالْبَرَاءَةِ؟ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، فَرَدَّهُ عُثْمَانُ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَحْلِفَ، فَأَلْزَمَهَا، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الْحَارِثِ، قَالَ: نَكَلَ رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ عَنْ الْيَمِينِ، فَقَضَى شُرَيْحٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا أَحْلِفُ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: قَدْ مَضَى قَضَائِي، انْتَهَى.
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، قَالَا: اشْتَرَى عَبْدُ اللَّهِ غُلَامًا لِامْرِئٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ إلَى مَنْزِلِهِ حُمَّ الْغُلَامُ، فَخَاصَمَهُ إلَى الشَّعْبِيِّ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: بَيِّنَتُك أَنَّهُ دَلَّسَ عَلَيْك عَيْبًا؟ فَقَالَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ، فَقَالَ لِلرَّجُلِ: احْلِفْ أَنَّك لَمْ تُبِعْهُ، فَأَبَى، فَقَالَ الرَّجُلُ: اُرْدُدْ الْيَمِينَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَضَى الشَّعْبِيُّ بِالْيَمِينِ عَلَيْهِ فَقَالَ: إمَّا أَنْ تَحْلِفَ، وَإِلَّا جَازَ عَلَيْك الْغُلَامُ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، قَالَ: أَمَرَتْ امْرَأَةٌ وَلِيدَةً لَهَا أَنْ تَضْطَجِعَ عِنْدَ زَوْجِهَا، فَحَسِبَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحْلِفُوهُ أَنَّهُ مَا شَعَرَ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَارْجُمُوهُ، وَإِنْ حَلَفَ فَاجْلِدُوهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَاجْلِدُوا امْرَأَتَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَاجْلِدُوا الْوَلِيدَةَ الْحَدَّ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُنْكِرًا عَلَيْهِ يَعْنِي فِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى نِكَاحًا لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْمُنْكِرُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ.
وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ:
أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا.
لَهُمَا: أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فَكَانَ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ بَذْلٌ لِأَنَّ مَعَهُ لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْزَالُهُ بَازِلًا أَوْلَى كَيْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ، وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ وَصِحَّتُهُ فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ وَالْبَذْلُ مَعْنَاهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ.
قَالَ: (وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ الضَّمَانُ وَيُعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ وَالْقَطْعُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالَ وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ هِيَ الصَّدَاقَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ، وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ وَكَذَا فِي النَّصْبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ وَالْحَجْرِ فِي اللَّقِيطِ وَالنَّفَقَةِ وَامْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمَا، إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا.
قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ اُسْتُحْلِفَ) بِالْإِجْمَاعِ (ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ خُصُوصًا إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَإِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَهَذَا إعْمَالٌ لِلْبَذْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهَذَا الْبَذْلُ مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَصَارَ كَقَطْعِ الْيَدِ لِلْأَكْلَةِ وَقَلْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ يُحْبَسُ بِهِ كَمَا فِي الْقَسَامَةِ.
قَالَ: (وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ قِيلَ لِخَصْمِهِ: أَعْطِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) كَيْ لَا يُغَيِّبَ نَفْسَهُ فَيَضِيعَ حَقُّهُ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُعَدَّى عَلَيْهِ وَيُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَصَحَّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا فَرْقَ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْوَجِيهِ وَالْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لِلتَّكْفِيلِ، وَمَعْنَاهُ فِي الْمِصْرِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي عَيْبٌ لَا يَكْفُلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.
قَالَ: (فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ) كَيْ لَا يَذْهَبَ حَقُّهُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا فَيُلَازِمَ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي) وَكَذَا لَا يَكْفُلُ إلَّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِمَا لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ إضْرَارًا بِهِ بِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ، وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ظَاهِرًا، وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.